العالم اليهودي كبيئة أولى للمسيحية

العالم اليهودي كبيئة أولى للمسيحية

لا يستطيع أحد أن يفهم المسيحية الناشئة إن لم يطلع على أوضاع اليهودية في القرن الأول فالمسيحية الناشئة هي يهودية بالولادة ويونانية ورومانية بالتبني.

تميزت المسيحية بطابع المكان الذي نشأت فيه وخرجت منه (اليهودي)، وبطابع المكان الذي نمت فيه (اليوناني روماني)، رغم ذلك لا يمكن أن نتصور فصل تام بين المجتمعين اليهودي أو اليوناني روماني.

احتكت المسيحية الناشئة بالجماعة اليهودية كجماعة أصلية خرج منها المؤمنون الجدد في فلسطين وكأقليات دينية مميزة المجتمعات الرومانية واليونانية.

نشأت المسيحية في مجتمع يهودي دينياً محتل سياسياً للسيطرة الأجنبية، فبعد الفرس واليونان جاء الرومان وفرضوا سيطرتهم عليه، الذين جعلوا من فلسطين دولة تابعة لروما حتى سنة 56 ب م، ثم من التاريخ السابق إقليما من أقاليم الإمبراطورية الرومانية.

كانت السلطة المحلية الممثلة في السنهدريم (مجلس القضاء الأعلى لجميع اليهود) وبعظيم الكهنة الذي يرأسه، تواجه صعوبة كبرى في تثبيت نفسها تجاه الحكم الإمبراطوري.

يهود الشتات:

كان لتقلبات الأوضاع السياسية وضيق الأراضي الوطنية، وحيوية العلاقات العائلية عوامل منشطة لحركة الهجرة خارج فلسطين بشكل منتظم. كانت هذه الحركة من قبل العصر المسيحي. هكذا تكون يهود الشتات، والذين كان عددهم في زمن يسوع يزيد عن عدد اليهود المقيمين بفلسطين، لكن ظلت فلسطين بالنسبة لهم مركز العلاقة بالرب يحرصوا على زيارتها في الأعياد اليهودية الكبرى. وكان الهيكل بالنسبة لهم هو مركز الحياة الدينية.

المجمع

لم يتفق المؤرخون حتى يومنا هذا على تحديد جذور المجمع اليهودي م حيث المكان والزمان، أين نشأ ومتى؟

يلبي المجمع من الناحية الدينية تلبية مباشرة ما يحتاجه الريف الفلسطيني، ولا سيما في الشتات، وهو يجسد في الوقت نفسه أمثل تعبير عن ديانة محورها الكتاب الموحى به.

في المجمع لا تقدم الذبائح، لأن تقديمها ممنوع خارج الهيكل وليس هناك كهنة لتقديم الذبيحة. إذاً أساس المجمع هو الكتاب المقدس، والمجمع لممارسة الشعائر وهو مدرسة في نفس الوقت، يقوم بالإشراف على المجمع الرابينيون الذين يرأسون طقوس العبادة أيضاً ويقوموا بالتعليم.

الشيع اليهودية في أيام يسوع:

إن وحدة العالم اليهودي المبنية على الإيمان بالله الواحد وعلى حفظ الشريعة الأخلاقية والطقسية، إلى جانب الإيمان بأن إسرائيل هو وحده شعب الله المختار، كانت ولا شك متينة جداً، لكنها كانت تحوي في داخلها اختلافات ملحوظة في العقيدة والممارسة، لأن العقيدة كانت مقصورة على بعض التأكيدات الأساسية التي من شأنها أن تحدد بطرق شتى، أما الممارسات  ومهما تعددت أحكامها تبقى مثار للجدل والاختلاف. ومن هنا قامت الفرق والشيع اليهودية المختلفة

· الصدوقيون

عند اقتراب العصر المسيحي، ساد على تاريخ اليهودية الرسمية التنافس الذي ساد بين الصدوقيون والفريسيون، رغم كونهم يجلسون بجوار بعضهم البعض في السنهدريم، تميز الصدوقيون بكونهم لسان حال الأرستقراطية الكهنوتية. كانوا حريصين على الاستقرار السياسي ويرفضون كل توتر، لذا كانوا يقبلون بسهولة التواطؤ مع المحتل الروماني، ولذا كانوا يرفضون أي تحرك مسيحي لأنه سيؤثر على هدوء المجتمع، لذا كانوا من أكبر معارضي يسوع ومن أكبر مؤيدي الحكم الذي أصدره بيلاطس.

كان الصدوقيون محافظين في الدين وفي السياسة، كانوا يكتفون بتفسير الشريعة حرفياً ويرفضون كل ما يتعدى نص الكتاب المقدس المدون، لذا كانوا يرفضون النصوص الحديثة في العهد القديم، كما أنهم كانوا يرفضون الإيمان بوجود حياة آتية.

·الفريسيون

لم يؤثر الصدوقيون في الشعب تأثيراً بالغاً، رغم تواجدهم المستمر في الهيكل، بل الفريسيون كانوا هم قادة الشعب من الناحية الروحية. يأتي اسم الفريسيين من العبرية "فروشيم" التي تعني المنفصلين، ويرجع ذلك لكونهم تكتلوا بادئ الأمر أيام ثورة المكابيين في مجموعة متشددة منطوية على نفسها كنوع من الاحتجاج على فتور مواطنيهم، تدريجياً خرجوا من عزلتهم ومدوا نفوذهم إلى كافة أرجاء العالم اليهودي.

بعد سقوط أورشليم ودمارها عام 70 قضت الأحداث على الفرق الأخرى، غدت الفريسية واليهودية شيئاً واحداً، لذا فإن اليهودية مدينة ببقائها إلى يومنا هذا للفريسية. كان الفريسيون مدققين بشكل يخنق التقوى الفعلية، كانوا يتمسكون بحرفية الشريعة بدرجة تجعلهم يهملون روحها. دخلت المسيحية الناشئة معهم في صدام من بدء رسالة يسوع العلنية حيث انتقد بشدة تمسكهم الحرفي بالشريعة.

الفريسيون كانوا في الأساس أنصار للشريعة حيث يتأملون فيها باستمرار ويسعون  إلى ممارستها بطريقة مثالية من خلال تحكيمها في كل ظروف حياتهم.

دون تعليم الفريسيين الذي نشرته مدارسهم المختلفة المتفاوتة في التشدد أو التساهل في المشنة والتلمود، وهما ما يعرفا باليهودية الرابينية.

·الغيورون

كان الفريسيون يمثلون نوعاً من الطبقة الوسطى إلى جانب الأرستقراطية الكهنوتية، أما الغيوريون فكانوا يتخذون أعضائهم من طبقات العمال الريفيين الأشد بؤساً، يذكر يوسيفوس فلافيوس أنهم كانوا في اتفاق مع الفريسيين في مسائل التعليم والممارسة الطقسية، لكنهم كانوا يمتازون عنهم بقومية عدائية شديدة ضد المحتل الروماني الذي كانوا يرغبون في استبداله بحاكمية إلهية تحكم حسب الشريعة فقط .

كانوا يرغبون في تسريع مجئ الرب، وكانت المجموعات المتشددة منهم تنصب الكمائن في الطرقات ويستخدمون العنف والقتل ضد الوثنيين المقيمين في الأراضي المقدسة، وضد من يقبل وجود المحتل فيها من اليهود أنفسهم.

نشأت هذه الشيعة من الوقت الذي أصبحت فيه اليهودية إقليماً رومانيا، وسببت كثير من الاضطرابات التي أدت بدورها إلى نشؤ ثورة اليهود بين 66 و 70 والتي انتهت بتدمير أورشليم.

ربط كثير من المؤرخين بين حركة يسوع والغيوريين، لذا اعتبرته السلطات الرومانية محرضاً سياسياً من نمطهم ولذا صلبته، لكن هذا لا يعفي اليهود من تبعية عدم التعمق في بشارة يسوع الخالية تماماً من العنف.

· الأسينيون

كان الأسينيون من عدة نواح أكثر الشيع اليهودية إثارة للاهتمام، وأصبحوا أيضاً من أكثر الشيع شهرة بفضل العثور على مخطوطات البحر الميت، تكلم عنهم كثير من المؤرخون أمثال يوسيفس وفيلون الإسكندري وبلينس الأكبر. كان أعضاء هذا التجمع يقيمون في الصحراء تحديداً في قمران، على ضفة البحر الميت الغربية.

إن معنى كلمة "أسينيين" الأصلي ليس واضحاً لكن من المعتقد أن بدايات هذه الشيعة كالفريسيين كان مرتبطاً بثورة المكابيين، إلا أن الأسينيين استمروا في انفصال اختياري عن المجتمع، فانتظموا في نظام دير حقيقي خضعوا فيه لقوانين صارمة وعاشوا فيه عيشة جماعية يقضونها بين العمل اليدوي والتمارين الروحية. كانوا يعتبرون أنفسهم إسرائيل الحقيقي الوحيد ويشملون بكراهيتهم الوثنيين النجسين وجماهير اليهود على السواء.

كانوا يعيشون في مطلع المسيحية حياة هادئة في أديرتهم، حتى احتفالاتهم الطقسية كانوا يمارسونها بعيداً عن الهيكل الذي دنسه في نظرهم كهنوت غير مستحق. كانت الشخصية المحورية لهم هو معلم البر والذي غالباً حسب رؤيتهم مات شهيداً لأمانته. كان الأسينيون غير متفقين مع الدين اليهودي في فكرة الثنائية والتناقض الجذري القائم بين الجسد والروح التي كانوا يؤمنون بها، رغم ذلك كانوا يزيدون عن الفريسيين من حيث تمسكهم بالطهارة والغيرة على الشريعة.

الاب روفائيل  امجد