الإبن الشاطر

الموضوع:   الإبن الشاطر.



مع إنفتاح الكنيسة على العالم، كثرت شروحات نص الإبن الشاطر، منهم مَن أخذ النص من الناحية الاجتماعية ومنهم النفسية وبعضهم التحليلية والروحية. اطلعت مؤخراً على آخر تحليل نفسي من محللة نفسية ملتزمة لمثل الابن الشاطر. سأربطها ضمن برنامجنا بنبي من العهد القديم وهو النبيّ يونان.
لا شيء يجمع بين الأخ الأصغر والأخ الأكبر، لا في الطبع ولا في التصرف ولا في التفكير ولا في الروحانية ولا في الروح، هناك شيء واحد يجمعهم سلباً. الإثنان معاً لم يكتشفا الحب الحقيقي لأبيه. الإبن الاصغر ظنّ أنه سيجد الحلّ خارجا، فقرّر أن يأخذ حصته ويسافر إلى الخارج، إلى بلد بعيد، وقد أعطاه والده حصته. وهنا نرى أول إشارة للحرية الدينيّة في الكتاب المقدس، الحريّة الذي تكلم عنها المجمع الفاتيكاني الثاني. "الحرية الدينية". هذا الابن طلب إرثه ووالده لم يمنعه، أعطاه حصته، فذهب الإبن الأصغر وترك قلبه، وقلبه يعني كيانه، جوهره، عائلته، ربّه... والأخ الاكبر ظنّ أنّه وجد الحلّ بجانب والده، لكنه قسّى قلبه. الأخ الأصغر ترك قلبه وذهب والأكبر بقي لكن بقلبه القاسي.

إذاً، الإثنان هما غير مفعمين بالحبّ. فإذا كنت في الدير أو في العائلة فهذا لا يعني أنني اكتشفت الحبّ، فعملية الحبّ هي عمليّة داخلية، يمكنني أن أحبّ إن كنت بعيداً أو قريباً، ويمكنني أن لا أحبّ لا في القرب ولا في البعد. بتعبير أوضح، إنّ الذي يخون لا يحبّ، وأفهم أنّ إنسان لا يصلّي لأنه لا يحبّ، اذاً القاعدة الأساسية للمكرّس ولغير المكرّس ولكلّ مَنْ يؤمن بقيَم عليه أن يحبّ. الحبّ هو الانطلاق، وعلى سبيل الحبّ سَنُدان ونُطالَب فالمسيح سيطالبنا بكميّة الحبّ، وكيفيّة ترجمة هذا الحبّ من خلال الآخر.
الأخ الاصغر والأخ الاكبر كلاهما في الظلمة في غياب الحبّ، في الخطيئة، وهذا يعني تغييب الله الذي هو الحبّ. هذه هي الفكرة الأولى. سآتي الآن إلى الفحص النفسي لهؤلاء الشباب وأبيهم.

الصغير: يقول النص "سافر الى بلد بعيد" طبعاً ليس البعد الجغرافي ولا المسافة إنما المحلل النفسي يقول أنّ هذا البعد هو المنفى، الإنسان الذي يذهب إلى بلد بعيد، إلى حالة بعيدة، يعني أنه ذهب إلى المنفى. ظنّ هذا الشاب أنه سيحلّ مشاكله العالقة في حياته منذ زمن، بعيداً عن قلبه وبعيداً عن ذاته، وعندما قرّر ان يحلّ مشاكله في بلد بعيد وفي طريقة بعيدة وفي حالة بعيدة، أخذ يعيش على هواه، فكان كل شيء مباح ومستباح له، لا قيم لا اخلاق ولا فضائل... عاش في خلل نفسيّ وكانت نتيجته فقدان الحريّة لانه عاش الفوضى وعاش الاستقلاليّة على طريقته. فقد الحرية الحقيقية، فقد الله وكلمته، فقد شرائع وقيم الحياة، فقد قيم العائلة في الطريقة التي اختارها لنفسه وخطّها لنفسه، عاش المنفى.

إذاً، لنعود إلى العهد القديم، المنفى الذي عاشه شعب الله من سنة 586 الى 539 هو نتيجة خطيئته أو عدم حبّه وعدم أمانته لربّه؛ سمح له الرب أن يعيش في المنفى. ما عاشه الشعب في العهد القديم وما عاشه الأخ الاصغر في بلد بعيد ما زلت أعيشه أنا الآن في كل مرة أعيش في الفوضى والاستقلالية التامة وحالة البعد، فأكون في المنفى.
بالنسبة إلى الابن الاصغر، ما هي نتائج هذا المنفى؟ هناك ثلاث كلمات مهمة جداً في النص: "العزلة" اصبح لوحده. "العوز" خسر كل شيء. "العبودية" ارتهن لرجل غريب.
العزلة:   بقي لوحده يتخبط في ذاته وملذاته وعندما وصل إلى ذلك البلد، العزلة الداخلية والخارجية. وحدثت مجاعة، وماذا يعني في النص حدوث هذه المجاعة ولم يكن في ذلك البلد مجاعة؟ في مفهوم العهد القديم، الإنسان الذي يعيش المنفى والخطيئة وهو بعيد عن ربّه يصبح نحس أينما حلّ. مثلاً، يونان النبي الذي طلب منه الربّ أن يذهب إلى نينوى، لم يذهب لانه تزمّت بتفكيره، إنعزل ولم يقبل أن يحصل الوثنيّ على الخلاص، خاصة وانّ الرب هدّد هذا الشعب إن لم يتُب.
رفض يونان النبي أن يذهب، تمرّد على أمر الربّ لكي يعيش على طريقته، ذهب إلى باخرة متجّهة إلى ترشيش ولمّا صعد على متنها بدأت أمواج البحر تعلو، (طبعاً هذه صورة)،فهرب من وجه الربّ وذهب إلى قعر السفينة وتبعهُ الشعب وازدادت العاصفة وهو قابع في خطيئته، قابع في عزلته وتمرّده. الطبيعة تمردت عليه، أراد الربّ أن يُريه غضبه عليه من خلال الطبيعة وبدأ الشعب والقبطان الصلاة، وهم وثنيون وقالوا ليونان: نادي إلهك علّه أن يستجيب؛ وسألوه لما يهرب، وعندما أخبرهم لاموه على هربه من إلهه.
إذاً هذا الإنسان الذي تمرّد على الرب أصبح النحس. فاقترعوا فيما بينهم بأن يضحوا باحد لكي يهدأ البحر وبالقرعة كان اسم يونان (لأنه نحس)، وغاص في البحر وابتلعه الحوت وظل ثلاثة ايام يصلي المزامير... وتعرفون باقي القصة...
 نعود إلى الإبن الشاطر، والكلمة الثانية.
العوز:   أنفق كل شيء وجاع، فرغ من كل شيء وفرّغ نفسه من كل شيء. ذهب إلى رجل غريب، كلمة "غريب" أي كان قريباً وصار غريباً، كان متديناً وصار في أرض وثنيّة، كان ينتمي إلى عائلة، صار لوحده، كان يأكل طعاماً عادياً، صار يشتهي أكل الخنازير ولم يحصل على شيءٍ منه، عاش في الحرمان والعوز وعاش في خلل.
العبودية:  "التحق برجل غريب" خرج من كيانه، خرج من ديانته وعائلته وإلهه فصار عند الغريب وفي العهد القديم وفي أيام يسوع، كلمة "غريب" تعني بيئة ليست بيئته. لكن الخطيئة أيضاً تحوّل الإنسان، كما النعمة تضع الإنسان في حالة براءة وعفوية وصدق ونقاوة، الخطيئة تعمل العكس.
وهنا فلينظر كل إنسان إلى نفسه ويرى كم فيه أجزاء من المنفى. ومتى يذهب إلى المنفى؟
بعدما وصل هذا الإنسان إلى الحائط المسدود وبعدما عاش هذا الخلل النفسي والاجتماعي والديني واللاهوتي والفكري، ماذا كان الحل؟ أن يعود من المنفى. ولكن كيف؟
اولاً الدخول إلى الذات: فرجع إلى نفسه اي عاد إلى ذاته وإلى ضميره وهنا أضيف:
في اللغة العربية هناك ثلاث أنواع من الضمير: الضمير المتصل بالله والضمير المنفصل عن الله والضمير المستتر عن الله. رجع إلى ذاته، إلى قلبه أي خرج من الثرثرة الخارجية إلى الصمت الداخلي، عاد إلى قلبه القديم حيث الصمت المعبّر وبسبب المأساة التي عاشها واعتقد أنها الحلّ كانت المشكلة الاكبر، الطريق التي خطّها والطريق التي خاضها كانت مسدودة، فوحده اكتشف الفوضى التي يعيشها لأنه عاد إلى الأساس، عاد إلى ذاته لانه في الصمت أصبح يسمع بعد أن كان في ضجيج العالم ومنغمسا حتى أذنيه. فعاد إلى الصمت الذي فيه يسمع ويتكلم، يكتشف الكنز ويعود اليه، إلى الاصل، إلى ابيه. وهنا بدأ يكتشف أبيه قبل أن يجده.
هنا العظمة والفرادة في التفكير. إن هذا الإنسان بدأ يكتشف أبيه قبل ان يراه، كان معه ولم يكتشفه والآن اصبح بعيداً عنه وأكتشفه.
أعود بكم إلى يسوع بعد قيامته من بين الأموات عندما ظهر لتلميذَي عماوس يكلمهم ويناقشهم، لم يعرفوه وعندما غاب عنهما عرفاه، اذاً هذا الإنسان بقيَ سنوات مع أبيه ولم يعرفه وعندما أصبح بعيداً عنه بدأ يعرفه مثل كثيرين يعرفون الربّ في المحنة، في الضيق، في الغربة والربّ يسمح في بعض الاحيان أن نمر في بعض الضيق وتعاكسنا الأيام، وذلك لكي يردنا إلى الطريق الصحيح.
اذاً الفكرة الأولى هي الرجوع إلى الذات، الفكرة الثانية هي استيقاظ الضمير.
الكلمة التي قالها: "اقوم" ما معنى اقوم؟ أي سأنسى الماضي، سادفن الماضي الذي عشته في حالة المنفى، أي سأسحب من حياتي كل ال "لا" التي قلتها لربّنا، لا لطريقة عيشي، لا للتخلي عن أبي... كل هذه ال "لا" التي تجرح الرب والذي اكتشف اهميتها، جميل ان يصرخ لا في وجه الخطيئة وجميل جداً ان يكون لدينا "لا" كما لدينا "نعم"؛ المهم ان لا تكون العملية نسبية فما أراه سلباً قد يكون ايجاباً عند غيري.

اذاً هذا تنكر للماضي الذي عاشه، للماضي القريب وعاد إلى الماضي البعيد وجد فيه الصواب بعدما ذاق طعم العَوَز، بعدما تجرحت قدماه على طريق الخطيئة، بعدما أرتطم بالحائط المسدود نتيجة اختلال توازنه التفكيري واللاهوتي والروحي. قال "أقوم" تعني قيامة، إنتفاضة، الكفر بالطريق والطرق التي أوصلته الى هذه الحالة. هانا أطلب منكم ان يحدّد كل واحد منكم لحظة في حياته يقول فيها "أقوم" أو "خطئت"  هذه الكلمة قالها ايضاً "يوضاس" وكم فعله شنيع قال "خطئت إذ أسلمت دماً بريئاً". يوضاس والإبن الشاطر قالا خطئت في وقت ألم وضياع، أمّا أنا فمتى سيأتي دوري لأقول خطئت.

نقطة أخيرة:
السير على الطريق. سار في طريق الخطيئة وأحب العودة، سيعود ولكن لماذا؟ اولاً ضمن أنّ أباه سيستقبله ولو كأجير لأنه فكّر بجوعه "كم من الاجراء في بيت أبي يفضل الخبر عنهم"، أخذها عودة مادية "ساعود كعبد" لأن العبد في منزل أبيه يشبع وهو يهلك جوعاً. ضمن عودته، صار حراً انطلاقاً من تفكير العودة والقول "خطئت" سيقولها كأجير، لا يستطيع أن يقولها كابن لأنه اخذ حصته وذهب، والرائع أنه بدأ يكتشف حرية الحياة، حياته كأجير وهذا الذي أعطاه الارتياح.

الابن الكبير: الكل يرى فيه الإبن الصالح. بقيَ مع والده ولكن ما هو أكيد أن هذا الإنسان هوَ إنسان رافض، باغض، ترجم كل حقده ورفضه على أخيه وأبيه. وفعل هذا لأن هذا الإنسان يمثل الفريسي المعتدّ بأمانته وبطاعته والمتباهي بإخلاصه والمدّعي حفظ الشريعة. كل هذا خارجي ولكن عندما أتى الحدث الذي من خلاله عليه ان يبين مسلكيته كُشِفت الحقيقة. أعتمد على منطق الحساب "كم لي من السنين أتعبد لك ولم تعطني جدياً أتنعم فيه مع أصدقائي". لم يأتِ على سيرة أبيه قال له "أنت"، "ابنك هذا"، وبّخ أباه واحتقر أخاه. إذاً هذا الإنسان المتكبّر، الحسود الأناني يوَبّخ أباه لأنه استقبل أخاه؛ وهنا أعود إلى يونان النبيّ الذي اقتنعَ أنّ الربّ لا يعود عن قراره قال "أنا سأهدم نينوى وهو لا يتراجع وكان في الانتظار لأنّ يونان إنسان انعزالي، متزمت دينياً، لا يستطيع أن يرى الخلاص إلا لليهود، بينما الربّ يريد خلاص الجميع، حتى في العهد القديم. حزن كيف ربنا يعود عن قراره ليخلص الشعب الوثني وعندما كان ذاهباً الى نينوى وقبل ان يدخل إليها جلس تحت الشمس وفي خلال 24 ساعة خلق له الرب شجرة الخورع وبعد 24 ساعة يبست، تضايق وأتى يعاتب الربّ، والرب أجابه حزنت على شجرة أنا خلقتها لك فكيفتريدني ان أترك أبنائي هؤلاء في الهلاك ولا أخلصهم...
حزن يونان وبكى لأنّ ربّنا خلص الوثنيين، الأخ الاكبر ايضاً حزن ووبخ أباه كيف يستقبل أخاه. الأخ الاكبر يشبه حبة الحنطة التي ترفض أن تموت، الأخ الاكبر لم يقبل أن يتنازل ويدخل في باب المصالحة عندما استقبل الأب الإبن العائد دون شروط. هذا الاستقبال نابع من الحضور الدائم للأب، إنه بانتظار النعجة الضائعة ويقول الإنجيل "وفيما رآه أبوه آتياً من بعيد" كلمة "بعيد" وفي وسط النص، وكأنه في إنتظاره. إنّ أبانا يرانا نخطئ ويبقى بانتظار عودتنا، يسمح لنا أن نمرّ بالضيق والمحنة كي من خلالها نتعلّم ويردّنا له. انطلاقة توبته كانت معدته الفارغة، هو عائد كأجير، استقبله كابن وأعاد له إشارات البنوّة الأربعة وفي الوقت ذاته، وكما لقي إبنه الاصغر لقيَ إبنه الأكبر يترجاه. كان الأب فرحاً "ابني كان ميتاً فعاش وضالاً فوجد" يقول الأب في هذه الآية انّ الصفح وحده يمنح القيامة، بكلمات متشابهة، الصفح هو الفصح والفصح هو القيامة والقيامة هي العبور والتعبير، وفي هذه اللحظة عرف الإبن الأصغر أنه إبن لأوّل مرة، ولأوّل مرة يكتشف أن


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلمات ترنيمة انا مشتاق تغير فيا "فريق قلب داود"

ترانيم بوربوينت بحرف أ

ترنيمة واخدينك علي فين كلمات وبوربوينت2018